تبدو إمكانات اليعاربة في مقدرتهم على الإستفادة من المنافسات الدولية في بحار الشرق ‏وتقديرهم لأهمية العلافات المتوازنة مع القوى الأوروبية المتنافسة على الخليج العربي ‏إبتداء من النصف الثاني من القرن السابع عشر وتتميز دولة اليعاربة بأنها قد تمكنت ‏ومنذ عصر ناصر بن مرشد من أن تستثمر إمكاناتها الذاتية , حيث إمتزجت إمكانات ‏البحر باليابس بطريقة متناغمة شكلت منظومة رائعة أعطت عمقاً إستراتيجياً دفع بعمان ‏إلى أن تكون القوة العربية الوحيدة في منطقة الخليج القادرة على مواجهة كافة الأطماع ‏الأجنبية والأقليمية .‏

وتشير المصادر الأجنبية إلى أن الإمام ناصر بن مرشد تمكن من تحييد الإنجليز خلال ‏صراعه مع البرتغاليين وبينما القوات العمانية تحكم الخناق على البرتغاليين إقتصادياً ‏كانت شركة الهند الشرقية البريطانية تتفاوض مع العمانيين عام 1645م لإقامة علاقات ‏إقتصادية وسياسية من خلال بعثة إنجليزية ترأسها فيليب وايلد الذي وصل إلى صحار ‏وأبرم إتفاقاً مع الإمام ناصر بن مرشد يعطي للإنجليز حق حرية التجارة في مسقط ‏وحرية ممارشة شعائرهم الدينية .‏

وخلال عصر الإمام سلطان بن سيف 1649-1679م نجح العمانيون في إقامة علاقات ‏متوازنة مع كل القوى الإوروبية ولم يجد سلطان بن سيف غضاضة في تنمية علاقاته ‏مع الإنجليز وأستقبل الكولونيل رينسفورد بصفته مندوباً عن شركة الهند الشرقية عام ‏‏1659م وأثمرت المفاوضات عن منح الإنجليز أحدى القلاع في مسقط على أن لا يزيد ‏عدد الجند بها عن مائة وأن يتقاسم العمانيون والإنجليز الإيرادات الجمركية مقابل العمل ‏على تنمية موارد مسقط بما يحقق المصلحة للطرفين , إلا أن العمانيين لم يتحمسوا ‏لتنفيذ بنود هذه الإتفاقية بسبب تنامي المصالح الهولندية في المنطقة وتراجع دور ‏الإنجليز ولعلها كانت فرصة مناسبة لسلطان بن سيف الذي أدرك خطورة التنازل عن ‏إحدى قلاع مسقط لواحدة من أكبر القوى الأجنبية ولعل ما يفسر تراجع سلطان بن ‏سيف عن تنفيذ إتفاقية 1659م مع الإنجليز ذلك التفوق الهائل الذي حققه الهولنديون ‏على الإنجليز خلال الفترة من 1654م وحتى 1684م حيث إنتزع الهولنديون معظم ‏النشاطات الإقتصادية في الخليج .‏

وعموماً فإن عدم تنفيذ إتفاقية 1659م لم يتسبب في توتر العلاقات العمانية الإنجليزية ‏خصوصاً وقد إستخدم الإنجليز إسلوب الدبلوماسية المرنة حرصاً على مصالحهم المهددة ‏في المنطقة والأكثر من هذا أن العلاقات العمانية الإنجليزية تنامت في عهد سلطان بن ‏سيف 1649-1679م ونجح العمانيون في إقامة علاقات متوازنة بين الإنجليز ‏والهولنديين مما ضاعف من نجاح المواجهة العمانية البرتغالية وراح الإسطول العماني ‏يتعقب السفن البرتغالية في المحيط الهندي وسواحل شرق إفريقيا وسواحل الهند حيث ‏هاجموا قاعدتهم في ياسين كما نجحت مجموعات عمانية أخرى في شن حملات مماثلة ‏على سواحل كجرات وميناء بومباي وكانت معركة جزيرة سالت من أنجح هذه العمليات ‏‏.‏

ومما يجدر ذكره أن حجم الإنتصارات العمانية قد أذهلت القوى الأوروبية في الخليج ‏العربي والمحيط الهندي لدرجة دفعت البرتغاليين إلى الإعتقاد بأن سبب الإنتصارات ‏المتلاحقة للعمانيين يرجع إلى المساعدات الإنجليزية والهولندية ولعل إدعاء البرتغاليين ‏يمكن تفسيره على ضوء مقدرة العمانيين على التعامل مع الإنجليز والهولنديين سواء من ‏حيث إستثمار المنافسات القائمة بينهما والقدرة على تحييدها أحياناً والإستفادة من ‏أسلحتها المتطورة في أحيان أخرى , أو من حيث أبرز حجم التناقضات القائمة بينهما ‏من جانب وبينهما وبين البرتغاليين من جانت آخر ومقدرة الدبلوماسية العمانية على ‏إستثمار عناصر التناقض وهو جهود لا تقل أهميتها عن الإنتصارات العسكرية العمانية ‏‏.‏

ويعتقد أحد الباحثيين بأن الإنجليز كانوا متعاطفين مع العمانيين بسبب الصراع المذهبي ‏بين الإنجليز وبين البرتغاليين المتعصبين لمذهبهم الكاثوليكي مع الوضع في الإعتبار ما ‏خلفه البرتغاليون من سمعة سئية بسبب سياسة الإحتكار التي بالغوا في تطبيقها مما ‏ألحق ضررا بليغا بالمصالح الإقتصادية البريطانية .‏

ويضيف بوكسر أن الإنجليز لم يقدموا مساعدات كبيرة للعمانيين وإن كان بعض ‏الإنجليز قد عملوا كبحارة لدى العمانيين دون تكليف من شركة الهند الشرقية البريطانية ‏ودون علم الحكومة البريطانية .‏

ومع تقديرنا لوجهة النظر هذه إلا إنه إذا كان ثمة تعاطف إنجليزي مع العمانيين فإنه ‏كان تعاطفاً تكتيكياً حكمته مصالح سياسية وإقتصادية يمكن فهمها في إطار سياقها ‏التاريخي القائم وقتئذ بحكم القلق الذي إنتاب الدوائر البريطانية بسبب تصاعد القوة ‏العمانية وتأتي إتفاقية 1661م بين الإنجليز والبرتغاليين تأكيداً لهذا المعنى حيث توجت ‏بزواج الملك شارل الثامن من كاترين أوف برجنزا والتي نص في إحدى موادها على ‏ان يقدم الإنجليز مسقط إلى البرتغاليين إذا ما قدر لهم في أي وقت السيطرة عليها , ‏إضافة إلى أن العمانيين قد إعتادوا على مهاجمة السفن الانجليزية وأجبار بحارتها على ‏مشاركتهم في الهجوم على القواعد البرتغالية لدرجة أن تقرير لشركة الهند الشرقية ‏البريطانية في بندر عباس قد أقر بأن الإسطول العماني يعوق تجارة الشركة ويسبب لها ‏خسائر كبيرة .‏

وعلى الرغم من كل ذلك فقد حرص العمانيون على قيام علاقات متوازنة مع الإنجليز ‏والهولنديين وتقديراً لأهمية هولندا ودورها في بحار الشرق فقد قدم الإمام سلطان بن ‏سيف الأول مشروعاً يسهل للهولنديين نقل بضائعهم عبر الأراضي العمانية إلى البصرة ‏بدلاً من جمبرون بعد أن بالغ الشاه عباس الثاني في فرض ضرائب باهضة على ‏التجارة الهولندية .‏

وعلى الرغم من تحسن العلاقات الهولندية مع فارس وعودة جمبرون كمركز تجاري ‏للهولنديين إلا أن ذلك لم يكن على حساب المصالح العمانية الهولندية التي راحت تتحسن ‏يوماً بعد يوم .‏

وإذا كان العمانيون قد تمكنوا من تحييد الهولنديين بهدف الإجهاز على البرتغاليين إلا أن ‏العلاقات العمانية الهولندية لم تصل إلى درجة التحالف بل العكس هو الصحيح فقد شعر ‏العمانيون بأن الهولنديين يعتزمون الإنفراد بتجارة الخليج بدلاً من البرتغاليين ولم يكن ‏اليعاربة على إستعداد لإستبدال النفوذ الهولندي بالنفوذ البرتغالي .‏

لقد إنتاب الدوائر الفارسية قدراً كبيراً من القلق بسبب تنامي الإسطول العماني وأخذوا ‏يستنجدون بالهولنديين أحياناً وبالإنجليز في أحيان أخرى .‏

والملاحظ أن فارس لم تيأس من محاولة الإعتماد على القوى الأوروبية بهدف إحتلال ‏مسقط وعلى أثر فشل محاولاتها مع الإنجليز والهولنديين قررت الإتجاه إلى فرنسا التي ‏رحبت بهذا التعاون في البداية , وتمخض عنه إبرام معاهدة 1708م والتي تضمنت ‏الكثير من البنود التي تنص في مجاملها على إحتلال مسقط إلا أن الدبلوماسية الفرنسية ‏ما لبثت أن إكتشفت خطأ سياستها وكلما ضغط الفرس على الفرنسيين لبدء العمليات ‏العسكرية راح الفرنسيون يتدرعون بكثير من الحجج في الوقت الذي كانت فيه ‏الدبلوماسية العمانية تطور من تعاملها مع السياسة الفرنسية بينما كانت الأوضاع في ‏فارس تتدهور بشكل ملحوظ .‏

وفي عهد نادر شاه كانت أوضاع عمان قد أخذت في التدهور في ظل إمامة سيف بن ‏سلطان الثاني , وأطلت الفتن برأسها من جديد ولم يهمل نادر شاه طلب إمام عمان ‏العون منه , وإبحرت الحملة الفرنسية من بندر عباس سنة 1737م بقيادة لطيف خان ‏وإجتاح الفرس عمان وإحتلوا مسقط ومعظم المدن الساحلية وهكذا أخذت تنهار دعائم ‏الدولة بشكل لافت .‏

والحقيقة أن عصر اليعاربة يمثل حالة إستثنائية في التاريخ العماني من حيث سرعة ‏إنفراد اليعاربة بالحكم وتمكنهم من إستثمار كل مقومات النجاح وإعادة الوحدة الوطنية ‏ومقدرتهم الفائقة على مقاومة خصومهم في الداخل والخارج , كل ذلك حدث في وقت ‏قياسي لم يستغرق أكثر من عقد ونصف من الزمان , وبنفس السرعة أيضاً أخذت ‏مقومات الدولة تتهاوى حيث أطلت الفتنة برأسها وأنقسم الناس بين مؤيد لهذا أو مناصر ‏لذاك , وشاء القدر أن يخرج من نسيج المجتمع العماني رجل آل على نفسه أن يتصدى ‏لكل عوامل الضعف ولأنه كان شخصية شديدة الإنضباط شديدة الجرأة , لذا فقد إتخذ ‏من صحار رمزاً للوطن الكبير ومن هذه المدينة التاريخية إنطلقت المقاومة التي قادها ‏الإمام أحمد بن سعيد مؤسس دولة البوسعيد عن إقتدار لكي ينهي عصر الضعف من ‏أجل أن تبقى عمان وطنا أبدياً وفاعلاً وحياً .‏






أحدث المواقع
مواقع مميزة
ولايات نشطة



تابعنا على