لقد كان إتجاه اليعاربة ناحية البحر ضرورة إستراتيجية فرضتها الثوابت التاريخية ‏والحقائق الجغرافية وبحكم موقع عمان التي يحدها الخليج العربي شمالاً وبحر العرب ‏جنوباًَ وخليج عمان شرقاً وصحراء الربع الخالي غرباً لذا كانت الصحراء دائماً في ‏ظهر عمان تدق بإستمرار على بابها الخلفي من أجل ذلك كانت قصة عمان مع ‏الصحراء بمثابة فصل عادي في التاريخ العماني بينما كان البحر دائماً هو الركيزة ‏الأساسية وبإتحاد البحر واليابسة معا شكلت كل فصول التاريخ العماني .‏

وقد إستطاع آئمة اليعاربة سواء في فترة قودة الدولة أو حتى في فترات ضفعها أن ‏يضعوا أيديهم على العنصر الفاعل في التاريخ العماني وهو إرتباط البحر باليابس بشكل ‏متناغم إدراكاً منهم لخطورة الموقع وأهميته واللافت للنظر أن اليعاربة قد أدركوا أهمية ‏الخطر الذي يواجههم والذي يعد في كثير من الحالات ظاهرة صحية حيث شحذ الوعي ‏القومي وعمق الإحساس بالوعي الديني والوطني وفي جميع الحالات أبعد إحتمالات ‏الإنغلاق على الذات واللامبالاة بالعالم الخارجي . ‏

لقد أدرك اليعاربة أن عدواً بعينه متربص بعمان يدفعها بقسوة ناحية الصحراء لأنه يرى ‏فيها موطن الخطر ومكمن القوة ومفتاح المنطقة , وخلال هذا الصراع تشكلت الثوابت ‏الإستراتيجية التي حددت ملامح دولة اليعاربة التي أجادت لعبة التوازنات بين كافة ‏القوى الأوروبية المتنافسة على الخليج .‏

وكنتيجة طبيعية لكل هذه التحديات فقد إقتحم اليعاربة حياة البحر ونجحوا إلى حد هائل ‏في إعداد قوة بحرية إستطاعت تعقب البرتغاليين في الخليج العربي والمحيط الهندي ولم ‏يكتف اليعاربة بخبرتهم المحلية بل طوروا سفنهم مستفيدين من التقدم الكبير الذي طرأ ‏على صناعة السفن الأوروبية .‏
ويبدو أن الإسطول العماني لم يتملك ناصية الموقف تماماً إلا عقب تحرير مسقط عام ‏‏1649م حيث راح الإسطول العماني يتعقب الإسطول البرتغالي على السواحل الهندية ‏والإفريقية وشهدت الفترة من عام 1650 وحتى 1652 نشاطاً بحرياً عمانياً أقلق ‏الإنجليز والهولنديين حيث تمكن الإمام سلطان بن سيف من الإعتماد بالكامل على السفن ‏الحديثة بني بعضها في الهند والبعض الآخر تم شراؤها من الهولنديين , وإستخدم ‏المدافع المتطورة بنفس كفاءة المدافع الأوروبية وكانت بومباي في مقدمة المناطق التي ‏شهدت هجوماً عمانياً مكثفاً وفرض العمانيون رسوماً جمركية على مناطق عديدة مثل ‏جوا وبرسالور ومتفالو وباتيكالا مما وفر لهم قدراً معقولاً من الأموال التي إستخدمت ‏في تطوير السفن وإقتناء أفضل الأسلحة المتطورة .‏

لقد كان تطور البحرية العمانية بشكل لافت خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر ‏مؤشراً عملياً للتطور الإقتصادي الذي حققه العمانيون خلال هذه الفترة والذي شغلت ‏التجارة فيه حيزاً هاماً خصوصا وأن نهاية الوجود البرتغالي في عمان يعد نهاية عملية ‏لسياسة الإحتكار التي ألمت بالخليج العربي والمحيط الهندي منذ بداية القرن السادس ‏عشر الميلادي .‏

أن تطور السفن العمانية بهذا الشكل الكبير لا يمكن أن يكون بسبب الإعتماد على السفن ‏المشتراة من الإنجليز أو الهولنديون فقط وإنما إتخذ العمانيون من المراكز الصناعية في ‏سورات ونهر السند وغيرهما من المناطق التي لم يعرف الإنجليز أو الهولنديون عنها ‏شيئاً مراكز لصناعة سفنهم بعيداً عن أعين الأوروبيين وهو ما تشير إليه بعض ‏المصادر الأجنبية .‏

ويبدو أن الوصول بالإسطول العماني إلى الحد الذي تهابة أساطيل الدول الأوروبية لم ‏يكن أمراً سهلاً فقد إستغرق ذلك جهداً ووقتاً وكانت عمليات التمويل في مقدمة ‏الصعوبات إضافة إلى القلاقل والمشكلات الداخلية التي كانت تطل برأسها ما بين وقت ‏وآخر .‏

ووفقاً لتقرير كبته ويلمسون كمندوب عن الشركة الهولندية حينما إسندت إليه مهمة ‏زيارة عمان عام 1774م حيث يبدي إندهاشه بسبب إفتقاد العمانيين إلى بحارة منقطعين ‏للعمل على السفن العسكرية بل يتوافدون على السفن حينما يتطلب الموقف القيام بمهام ‏عسكرية .‏

والحقيقة أن هذه الملاحظة لها دلالتها على إعتبار أن النشاط الإقتصادي والعسكري كانا ‏متلازمين ولم تعرف السفن العمانية الإحتراف بمعناه الدقيق ففي وقت السلم ينصرف ‏البحارة لممارسة نشاطهم الاقتصادي والتجاري وإذا ما تأزمت الأوضاع إنصرف ‏البحارة إلى مهامهم العسكرية بعكس ما كان يحدث على السفن الأوروبية التي كان لها ‏بحارة منقطعون للعمل في هذه المهام فقط .‏

لعل ذلك كان يضاعف من صعوبة المهمة التي يقوم بها اليعاربة الذين كانوا يبنون بيد ‏ويحملون السلاح باليد الأخرى وهي ظاهرة لم تعرفها أوروبا .‏

يمكن فهم طبيعة الموقف على ضوء الدوافع التي كان يقاتل من أجلها العمانيون حيث ‏كان الجهاد من اجل الدين والوطن طريقاً إلى النصر أو الإستشهاد وهي دوافع كان ‏يفتقدها البرتغاليون .‏

وبوفاة سلطان بن سيف عام 1679م خلفه إبنه بلعرب بن سلطان الذي نقل مقر إقامته ‏من نزوى إلى جبرين ومازال حصنة قائماً هناك بخطوطه ورسومات جدرانه فريداً في ‏بنائه وشاهداً على ذوقه الرفيع , وتذكر بعض الروايات أن شقيقه سيف قد خرج عليه ‏سنة 1689م وأرجعت هذه الروايات الخلاف بين الشقيقين إلى عزوف بلعرب عن ‏الحرب وإبرامه إتفاقاً مع البرتغاليين أعتقد سيف بإنه يحمل شروطاً مجحفة بحقوق ‏العمانيين لذا فقد قاد سيف بن سلطان جبهة المعارضة رافضاً الإعتراف بحقوق ‏البرتغاليين وأحتل حصون مسقط وجبرين وتمكن من السيطرة على زمام الموقف وحسم ‏الموقف لصالحه حينما توفي شقيقة بلعرب .‏

لقد تعددت شهادات المعاصرين والمؤرخين في وصف البحرية العمانية في عهد سيف ‏بن سلطان فقد كتب بروس قائلاً : كان الإسطول العماني هائلاً لدرجة أثارت الرعب ‏في نفوس الأوروبيين وكل الدلائل تؤكد إنهم كانوا يسيطرون على الخليج كله .‏

ويذكر دكتور فراير الذي زار الخليج في عهد سيف بن سلطان أن العمانيين قد إكتسبوا ‏مكانات بحرية هائلة وأن نشاطهم يهدد بندر عباس لدرجة أن الفرس طلبوا من الإنجليز ‏حمايتهم من العمانيين .. وقد أضاف لوكير الذي زار مسقط في عهد سيف بن سلطان ‏وشاهد واحدة من السفن العمانية وهي مجهزة بسبعين مدفعاً وأضاف أن الإسطول ‏العماني تمكن من أسر واحدة من أغنى سفن كلكتا وكانت تحت قيادة الكابتن ميرفيل ‏وعلى الرغم من أعمال الإسطول العمانيي ضد السفن الإنجليزية إلا أن الشركات ‏الإنجليزية التي تملك هذه السفن لم تقم بعمل مضاد ضد عرب عمان .‏

لقد إدعا البرتغاليون إنتصارات اليعاربة عليهم إلى إنها بسبب إمدادات واسحلة تلقوها ‏من الإنجليز وأن السفن العمانية كان يقود معظمها ضباط إنجليز وكانت ترفع العلم ‏الإنجليزي .‏

والحقيقة أن هذا الإدعاء حاولت أن تروج له الإدارة البرتغالية لكن لم يثبت صحته سواء ‏من جانب الإنجليز أو الهولنديين ولم تشر إليه كتابات الرحالة الأجانب إضافة إلى أن ‏الإسطول الانجليزي نفسه كان مستهدفاً من قبل البحرية العمانية وحدثت مصادمات ‏كثيرة سواء في عصر سلطان بن سيف أو سيف بن سلطان .‏

والحقيقة أن المؤرخين والرحالة الأوروبيين قد أبدوا أهتماماً ملحوظا بالتفوق الذي ‏وصلت إليه البحرية العمانية ويذكر البعض أن أئمة اليعاربة قد إستطاعوا بفضل ‏صداقتهم لأمراء الهند أن يضمنوا جلب الأخشاب اللازمة لبناء السفن , وهناك عدة ‏إتفاقيات عقدها اليعاربة مع حاكم مقاطعة بجو في الهند ولعل ذلك ما دفع جون مالكولم ‏إلى الإعتقاد بأن أحسن الوسائل للقضاء على البحرية العمانية هو قطع الصلة بين عمان ‏وأمراء الهند .‏

ويمكن التعرف على المدى الذي وصلت إليه البحرية العمانية في عهد اليعاربة من ‏خلال كتابات هاميلتون الذي ذكر أن البحرية العمانية كانت تتكون من مئات السفن ‏الكبيرة ذات الحمولات المختلفة من المدافع الكبيرة والصغيرة .‏

ويضيف الرحالة فريرز إنه من الضروري عدم إستفزاز العمانيين إذ إننا لن نجني من ‏وراء ذلك سوى ضربات تنهال علينا , ويعترف المؤرخ الإنجليزي كوبلاند بأن البحرية ‏العمانية في بداية القرن الثامن عشر قد أصبحت تفوق أية قوة بحرية أخرى لدرجة إن ‏الأساطيل الإنجليزية والهولندية كانت تخشى مواجهة العمانيين , ويضيف مايلز أن ‏اليعاربة قد صارت لهم السيادة الفعلية على المحيط الهندي وأصبحت سفنهم تنشر ‏الرعب في قلوب الأوروبيين لمدة قرن ونصف .‏

وحينما شعر العمانيون بأن فارس تنسق مع البرتغال بهدف إعادة إحتلال مسقط راح ‏العمانيون يشنون هجوماً على نطاق واسع ضد بندر كنج وبندر عباس ودمروا المدينتين ‏وأستولوا على السفن الفارسية والبرتغالية وفي عام 1717م عاود العمانيون هجومهم ‏بهدف تحرير البحرين من الإحتلال الفارسي ونجحوا في ضرب حصار بحري على ‏السفن الفارسية وأخضعت قواتهم حصون جزيرة قشم ولارك وسيطروا على موانئ ‏جنوب فارس ومنعوا السفن الفارسية من الملاحة في الخليج مما أحدث قلقاً شديداً لدى ‏الدوائر الأوروبية وخصوصا بعد أن إتخذ العمانيون من هرمز قاعدة لنشاطاتهم البحرية ‏‏, وتشير التقارير الهولندية إلى أن عدد الحامية العمانية في هرمز تقدر بألف رجل ‏يتناوبون على حراسة المضيق .‏

لقد إستنفذت فارس كل الوسائل الداعية لإقامة تحالف مع أي من الدول الأوروبية بهدف ‏القضاء على البحرية العمانية والإجهاز عليها , إلا أن كل محاولاتهم قد باءت بالفشل ‏وتؤكد كتابات المعاصرين لهذه الأحداث على سوء تقدير الفرس وتناقض مواقفهم بعكس ‏العمانيين الذين أتسموا بصدق وإحترام شديدين وخصوصاً في معاملتهم لأهل الأديان ‏الأخرى وحرية إقامة شعائرهم الدينية , ويذكر هاميلتون : لقد كان عرب عمان يشنون ‏غارات ضد البرتغاليين على الساحل الهندي ويدمرون المدن والقرى ولكنهم لم يهاجموا ‏الكنائس ولم يقتلوا أعزلاً أو طفلاً وكانوا يعاملون أسراهم معاملة كريمة بخلاف ‏البرتغاليين الذين كانوا يعاملون أسراهم معاملة وحشية ويضيف هاميلتون : لقد كان ‏العمانيون يمنحون أسراهم بدل أرزاق مثلما يعطون لجنودهم تماماً .‏






أحدث المواقع
مواقع مميزة
ولايات نشطة



تابعنا على